يقف لبنان على عتبة الدخول في المهلة الدستورية لإنتخاب رئيس جديد للجمهورية وفقاً للمادة 73 من الدستور التي تحتم إلتئام المجلس النيابي بناءً على دعوة رئيسه قبل انتهاء الولاية بمدة شهر على الأقل أو شهرين على الأكثر. وباستثناء ما صدر عن رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط حول البحث عن الياس سركيس جديد لتسلم مقاليد الرئاسة بعد الرئيس عون، وتوقف الحوار بعد إجتماع كليمنصو لعدم توفّر الإجابات لدى حزب الله، فإنّ سكوناً مربكاً يخيّم على كلّ ما يتعلّق بالإستحقاق المنتظر. لم يمتلك أحدٌ الجرأة الأدبية للإعراب عن قراره بالترشح، كذلك فإنّ القاعدة الرائجة باعتبار الإستحقاق الرئاسي شأناً مسيحياً يقضي بتقديم المسيحيين مرشحهم أو مرشحيهم للشعب اللبناني بعد خلوة مسيحية هو ما يجعل الكتل السياسية من خارج المطبخ المسيحي الصرف غير معنية بتسميّة مرشحها ومتخلفة عن الإضطلاع بمسؤولية الإستحقاق الداهم. هذا بالإضافة الى تقاعس السلطة التشريعية عن القيام بدورها، فدعوة رئيس المجلس النيابي لجلسة إنتخاب رئيس للجمهورية كافية لإطلاق مسار محكوم بالإستمرار لدورات عديدة وفقاً للدستور حتى إنتهاء المهلة الدستورية وحتى إنتهاء أجل الولاية في حال عدم دعوة المجلس.
تبدو الآمال المعلّقة على وصول رئيس يضع مساراً لإنقاذ البلاد وإستعادة الدولة وإطلاق المؤسسات غير مشجعة في ظلّ المعطيات القائمة، إلا بقدرة قادر. كما يبدو أنّ المعنيين بالإستحقاق ترشحاً وفقاً «للقاعدة الذهبية» المعمول بها لا يزالون في دائرة التناحر بين مرشحي الفريق الواحد، وهو تقليد مواكب لكلّ إستحقاق رئاسي، فالقاعدة إياها تفترض التوافقات والإجماع قبل الترشح. ولكن في مطلق الأحوال، وإلى أن يصبح الترشح للرئاسة شأناً وطنياً يعني كل اللبنانيين، فإنّ السجال المضمر حول الإستحقاق الرئاسي لن يختلف عن الجدليّة التي واكبت الإنتخابات النيابية، استعادة الدولة أو الإستمرار بالإنهيار.
أن يطالب مرشح للرئاسة في لبنان بالدولة السيّدة التي تمتلك حصريّة قرار الحرب والسلم وتمسك الحدود بقواها الشرعية، وتكافح الفساد، فهو ملتحق بإحدى السفارات الغربية أو لدى المملكة العربية السعودية وربما يُتهم بالتعامل مع العدو الإسرائيلي. أما أن ينظّر المرشح لإلحاق لبنان بالمحاور الإقليمية وتسيّب الحدود وتبرير السلاح المتفلت وتعطيل تشكيل السلطة وسرقة المال العام تحت شعار الميثاقية وحقوق الطوائف، فهو وطني بإمتياز يخشاه العدو ولا ضيْر في أن يكون فوق القانون الذي لم يوضع لأمثاله. أجل في لبنان المطالبة بالسيادة الوطنية وقيام الدولة العادلة وتكافؤ الفرص أمام المواطنين هي تهمة بالخروج على الميثاقية ومقتضيات الوفاق الوطني والديمقراطية التوافقية. هذه البدع التي أدخلها اللبنانيون إلى قاموسهم الدستوري وما لبثت أن انتقلت الى خارج لبنان، أضحت وصفة جاهزة لتعطيل الحياة السياسية إنّ شاء حلفاء طهران وحيث أرادوا.
يسوّق المحيطون برئيس الجمهورية أنه سيترك المقر الرئاسي عند انتهاء الولاية، ولكن الرئيس يقول في الوقت عينه أنّ حكومة تصريف أعمال غير قادرة على استلام صلاحيات الرئيس. فأي صلاحيات هي تلك التي تُقلق الرئيس ولا يقبل بإناطتها بمجلس الوزراء؟ الحقيقة أنّ ما وصل إليه لبنان سببه تجاوز الرئيس للصلاحيات المنوطة به وليس استعمالها وفقاً الدستور، وها هو يؤكّدها اليوم برفضه إناطة صلاحياته بمجلس الوزراء بعد انتهاء الولاية. ثم هل يمكن لأي رئيس الحكومة أو لأي لبناني أن يستخدم هذه الصلاحيات ليحكم لبنان بطريقة أسوء مما نعرفه اليوم؟ هناك استحالة أكيدة لتأسيس جهنم جديدة بالسرعة القياسية التي أنجزت بها جهنم التي أعلن عنها الرئيس عون بدم ٍ بارد.
قرار الرئيس بعدم تسليم السلطة لحكومة تصريف الأعمال لا يعني سوى شيئ واحد هو تجاوز الدستور ونقل الصراع على السلطة من داخل المؤسسات الدستورية المتوقفة عن العمل الى الشارع، وإنضاج الظروف للإنقلاب على النظام السياسي بعد تحويل القصر الرئاسي الى جماهيرية مصطنعة يتواجه اللبنانيون على أسوارها ويحتمي خلفها مغتصب سلطة.
عرف اللبنانيون هذا المشهد من قبل وكانت نسخته الأولى في العام 1988 مع العماد عون نفسه الذي ترأس حكومة عسكرية خلافاً للدستور، مهمتها تأمين إنتخاب رئيس للجمهورية. تحوّل القصر الرئاسي حينذاك الى منصّة لإعلان حروب الإلغاء والتحرير في كلّ الإتّجاهات وسط شعبوية مصطنعة أدخلت الجيش في مغامرات عسكرية متلاحقة، ومهّدت للإحتلال السوري للقصر الرئاسي ووزارة الدفاع الوطني بعد إصرار العماد عون على تكريس الإنقسام في المؤسسات، بالرغم من انتخاب رئيس للجمهورية برعاية عربية ودولية.
بقف اللبنانيون اليوم على مشارف استعادة مشهد العام 1988 وهم إذ يستعيدون أزمة انتقال السلطة حينها وتداعيات الدخول العسكري السوري الى لبنان الذي مهّد لوضع اليد على الحياة السياسية والوطنية حتى العام 2005، فإنهم يتساءلون كيف سيخرج العماد عون هذه المرة من بعبدا وما هي الأثمان المترتبة على الجماهيرية اللبنانية الجديدة ومن سيقبضها دمشق مجدداً أم طهران؟
العميد الركن خالد حماده – اللواء
التعليقات