رحيل الزعيم السوفياتي الأخير ميخائيل غورباتشوف جاء بعد 31 عاماً على رحيل الاتحاد السوفياتي. كان الحمل عليه ثقيلاً في السلطة، وليس أخف منه بعد السلطة.
هو عاش ليروي قصته وتجربته ويعيد النظر فيها بعد سنوات، وعاش ليواجه الآراء والنظرات المتضاربة حول مكانته في التاريخ، حفيدة خروشوف الذي سبقه في الإصلاح نينا خروتشيفا قالت، “غورباتشوف خرج على التفاهم مع أندرويوف إلى البريسترويكا والغلاسنوست فقاد روسيا إلى الحرية، لكن سلطوية بوتين أنهت ديمقراطية يلتسين، كما أخذ بريجنيف إصلاحات خروشوف إلى الاستنقاع”.
بوتين رأى في السقوط “أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”، لكنه رفض العودة إلى الماضي، وأراد بناء ماض آخر، والأحزاب الشيوعية اعتبرت أنه خائن أخطر عدو ومدمر “القلعة الاشتراكية”. وهناك بالطبع من اتهمه بأنه عميل للاستخبارات المركزية الأميركية، لكن مدير الاستخبارات في تلك الأيام ومن ثم وزير الدفاع روبرت غيتس أكد في كتاب “من الظلال” أن غورباتشوف “لم يكن عميلاً لنا، ولو كان كذلك لما عرفنا كيف نرشده لكي يهندس تدمير الاتحاد السوفياتي كما فعل هو بنجاح”.
وهذا أسوأ من التهمة، فما أراده غورباتشوف ليس هدم الاتحاد السوفياتي بل إعادة البناء فيه. وهو في الواقع شيوعي يؤمن بما في الكتب الماركسية، لا بالممارسات السلطوية للمسؤولين في البلدان الاشتراكية. وكان عليه أن يدرك أن الإصلاح الذي يقوم به مسألة دقيقة وحساسة خطرة.
ذلك أن غورباتشوف الذي أطلق “البريسترويكا” أي إعادة البناء و”الغلاسنوست” أي الشفافية، ارتكب في رأي المتعاطفين معه غلطة تكتيكية، إذ كان عليه أن يبدأ بإعادة البناء قبل الشفافية والانفتاح.
وقد سبقه عام 1861 القيصر ألكسندر الثاني “أبو البريسترويكا”، ودفع الثمن. وقال، “إذا كان بدء الإصلاح خطراً، فإن الأخطر هو وقف الإصلاح”. وفي تلك الأيام من القرن الـ19 قال المفكر الفرنسي ألكسيس دو توكفيل “أخطر لحظة بالنسبة إلى السلطة التوتاليتارية هي عندما تبدأ بإصلاح نفسها”.
هذا الدرس تعلمه قادة الحزب الشيوعي الصيني الذين عملوا على التنمية الاقتصادية ومحو الفقر والأمية من دون التخلي عن القبضة الحزبية على الدولة والمجتمع.
وروى الرئيس جورج بوش الأب صديق غورباتشوف الذي على ساعته انتهت الحرب الباردة وانهار الاتحاد السوفياتي خلال عشاء في بيروت بعد نهاية ولايته، أنه امتدح غورباتشوف خلال عشاء في دمشق مع الرئيس حافظ الأسد، فقال له الرئيس السوري: هذا مجرم دمر بلاده.
كان غورباتشوف يشكو من أن نهاية الحرب الباردة التي رآها نصراً للغرب والشرق معاً، صادرها الغرب واعتبرها نصراً له على موسكو. وبعد 25 سنة على البريسترويكا كتب غورباتشوف مقالاً جاء فيه “كان واضحاً ما يجب هجره: النظام الأيديولوجي السياسي والاقتصادي، المواجهة مع بقية العالم، وسباق التسلح الخطر. تأخرنا كثيراً في تغيير الحزب الشيوعي وإنماء الجمهوريات السوفياتية، الانقلاب العسكري أنهى البريسترويكا، وما لم يكن لدينا أجوبة له هو: ما الهدف الذي نريد تحقيقه؟ هل نريد العودة إلى الماضي؟ كلا”.
مأساة غورباتشوف أنه رأى الصورة كاملة عندما أمسك بكل السلطة ولم تكن صورة جيدة في نظره، فأصر على التجدد وإعادة البناء ومنع أجهزة الأمن من التسلط على الناس.
وليس هذا ممكناً في الأنظمة السلطوية، فلا هي تعيش من دون القمع، ولا هي تؤمن بالرفاه وسعادة الشعب وضرورة تأمين حاجاته التي تتجاوز ما يحتاج إليه الكائن البيولوجي، ومن الصعب تصحيح أخطائها، ويروى أن المسؤولين نسوا إبلاغ ستالين بأن التوقيت الصيفي انتهى، فبقي التوقيت الصيفي على مدى ثلاث سنوات في روسيا.
نقلا عن اندبندنت عربية
تنويه:
جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.
التعليقات