... التخطي إلى المحتوى

وجه وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال هنري خوري بتاريخ 5 أيلول 2022 كتابا إلى مجلس القضاء الأعلى طلب فيه “العمل على البتّ بمبدأ تعيين محقق عدلي لمعالجة الأمور الضرورية والملحة طيلة فترة تعذر قيام المحقق العدلي الأصب بمهامه – كطلبات إخلاء السبيل والدفوع الشكلية” وذلك إلى حين زوال المانع الذي يحول دون ممارسة الأخير مهامه لحسن سير العمل القضائي وإحقاق الحق”. وقد برر الوزير طلبه  بمعلومات وردته لجهة أن أحد موقوفي انفجار المرفأ قد أدخل بصورة طارئة إلى المستشفى لتدهور حالته الصحية، وأن معظم الموقوفين قد تردى وضعهم الصحي، كل ذلك من دون أي دليل. ومن الناحية القانونية، برر الوزير قراره بأنه توجد سابقة قضائية قضت بتعيين محقق عدلي مناوب بسبب تعذر قيام الأصيل بمهامه. وقد تسرّب للإعلام أن مجلس القضاء الأعلى وافق على الكتاب بانتظار أن يقترح وزير العدل أسما للقاضي البديل. ويشار إلى أن التيار الوطني الحرّ كان نظّم قبل الإعلان عن هذه الموافقة وقفة أمام قصر العدل لمناصرة قضية أحد الموقوفين بدري ضاهر المحسوب عليه، وأن عددا من نوابه قصدوا مكتب مجلس القضاء الأعلى وتسربت معلومات أن لقاءهم مع رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود لم يكن وديا بل شابه تلاسن من دون أن تتوفر لنا معلومات دقيقة عن تفاصيله. 

تعليقًا على كل ذلك، يهم ائتلاف استقلال القضاء إبداء الملاحظات الآتية: 

 

1- أن القرار يشكل اعتداء سافرا من السلطة التنفيذية على استقلالية المحقق العدلي

إن القرار غير قانوني طالما أنه يؤدي إلى نقل الملف القضائي من قاضٍ إلى آخر من دون موافقة القاضي الأول على ذلك. وهذا الأمر يتعارض مع جلّ المبادئ الدولية التي لا تسمح بعزل قاضٍ عن النظر في ملف قضائي إلا من خلال الآليات المحددة في القانون وهي الآليات التي عمدت القوى السياسية إلى تعطيلها، من خلال تعطيل مرسوم التشكيلات القضائية ومعه الهيئة العامة لمحكمة التمييز الناظرة في طلبات متصلة بالمرفأ كما سبق بيانه.

فنحن هنا أمام تدخل مباشر من وزير العدل للتأثير على وجهة القرار في ملف قضائي معين وبتغطية من مجلس القضاء الأعلى المعين في غالبية أعضائه الكبرى من القوى السياسية وفق قاعدة المحاصصة. 

ولا يرد على ذلك بوجود سابقة 2006، لأسباب عدة أهمها أن تعيين قاضٍ رديف محل القاضي الأصيل تمت آنذاك بموافقته وبرضاه، ولتغيبه في إجازة إرادية خارج الأراضي اللبنانية، في حين أن هذا التعيين يتم خلافا لإرادة القاضي الأصيل الموجود على الأراضي اللبنانية والممنوع عن العمل قسرا تبعا لتعطيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز بقرار سياسي غير قانوني أساسه استغلال النفوذ لضرب العدالة. 

وما يزيد من عدم قانونية القرار هو أنه ليس مبررا بالضرورة ولا محصورا بمعاملة معينة أو أجل معين. فقد وضع الوزير ضمن الحالات التي بإمكان القاضي البديل النظر فيها “طلبات إخلاء السبيل” و”الدفوع الشكلية” فضلا عن أي أمور ملحة أخرى، علما أنه ليس بإمكان أحد تخيل وجود ضرورة في بت دفوع شكلية في قضية تم كف يد القاضي فيها. ومؤدى ذلك هو ليس فقط تمكين الموقوفين من تقديم طلبات إخلاء سبيل، إنما أيضا وربما بالأخص تمكين المدعى عليهم غير الموقوفين وبعضهم فار من العدالة (وفي مقدمتهم الوزراء المدعى عليهم) بتقديم شتى الدفوع الشكلية ومنها دفع الحصانة لإنهاء الادعاء ضدهم والتفلت تماما من المحاكمة وكسر مذكرات التوقيف الصادرة بحقهم، كل ذلك تحت غطاء أن بعض الموقوفين ساءت أحوالهم الصحية بشهادة وزير العدل ومن دون أي دليل.

 

2- أنه يؤدي إلى فتح زاروب لتهريب المدعى عليهم والمشتبه بهم من العدالة مقابل التطبيع مع تعليق التحقيق بالكامل    

من البيّن أن كتاب الوزير يمهّد لارتكاب اعتداء جديد على حقوق ضحايا المرفأ وذويهم بالعدالة وحق المجتمع بالحقيقة، بعد ممارساتٍ عدوانية شرسة ضدّ المحقّق العدلي انتهت إلى تعطيل التحقيق بشكل كامل. وعليه، مؤدى القرار في حال تفعيله، فتح زاروب يمكن القوى السياسية من تهريب المدعى عليهم المحسوبين عليها وضمنا غير الموقوفين منهم من العدالة، مقابل التطبيع مع فكرة منع القاضي من العمل في إحدى أكبر الجرائم المرتكبة في لبنان.

وما يزيد من خطورة الأمر أن القاضي الرديف الذي يعين في هذه الظروف سيكون بإمكانه تسريب معطيات سرية في الملف، مع ما يشكله ذلك من خطر على سلامة التحقيق برمته. 

3- أنه يعرّي الانحطاط في أداء السلطات العامة في لبنان 

أخيرا، يميط هذا القرار اللثام مرة أخرى عن الدرك الذي وصل إليه أداء السلطات العامة المسخرة لخدمة مصالح شخصية وفئوية بما يناقض المصلحة العامة ويقوض حظوظ اللبنانيين بالعدالة. 

فوزير العدل الذي يفترض أنه مؤتمن على حسن سير العدالة، استباح القضاء بكتاب مفخخ ومفعم بسوء النية، مؤداه فرض تأويلات مخالفة تماما للمعايير استقلال القضاء وتهريب المدعى عليهم الفارين من العدالة، كل ذلك من دون ان يقوم بأي جهد حقيقي لإعادة التحقيق إلى سكته. 

والنواب الذين يفترض أنهم يمثلون الأمة، واصلوا سعيهم إلى تقزيم قضية المرفأ وآلاف الضحايا والعاصمة المدمرة في اتجاه اختزالها بقضية مشتبه به محسوب عليهم. ولم يجدوا حرجا في اقتحام مجلس القضاء الأعلى لإملاء مطالبهم في عدوان فئوي سافر عليه. 

ومجلس القضاء الأعلى الذي يفترض أنه يسهر على استقلال القضاء وحسن سير العدالة، ها هو يذعن لمطالب القوى السياسية من دون مقاومة تذكر، في مشهد يشير أكثر من أي وقت مضى إلى سقوط الحماية المرجوة من هذه المؤسسة في مواجهة هذه القوى. وهو أمر ما كان ليتمّ لولا القانون الحالي والذي يخوّل هذه القوى تعيين الغالبية الكبرى من أعضاء هذا المجلس.

هذا فضلا عن عدم إمكانية استبعاد أن يكون هذا القرار جزءا من تسوية سياسية مؤداها تكريس نظام اللاعدالة.  

 

وعليه، وأمام كل هذه الوقائع، يدعو ائتلاف استقلال القضاء ويطالب بالآتي: 

يدعو القضاة المستقلين إلى حماية المرجعية القضائية واستقلاليتها تعويضا عن سقوط مجلس القضاء الأعلى في أداء هذه الوظيفة، وذلك انتصارا لاستقلال القضاء واعتراضا على استباحته. ونحن ندعو في الوقت نفسه أيّ قاض يتم تعيينه بالطريقة المذكورة إلى رفض هذه المهمة احتراما لقسمه.   

التحقيق الفوري في دور وزير العدل والنواب في التأثير في قرار مجلس القضاء الأعلى، تمهيدا لإجراء المقتضى، علما أن محاسبة وزير العدل على تعرضه للقضاء باتت أمرا مستحقا سيبادر ائتلاف استقلال القضاء إلى اتخاذ الخطوات اللازمة من أجل ذلك. 

التضامن الكلي مع الضحايا وذويهم ضد كل محاولات تقزيم قضيتهم ووأدها، داعين القوى الاجتماعية كلها إلى أوسع التفاف حوله وصولا إلى وقف العراقيل السياسية أمام إعادة سير التحقيق في الجريمة التي ارتكبت بحقهم.  

 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *