بعدما دعا رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي رئيس “التيار الوطني الحر” الوزير السابق جبران باسيل إلى أن “يساجل نفسه أمام المرآة”، في آخر جولات “الحروب الكلامية” بينهما، معلنًا “التوبة” عن الاستمرار في “التراشق الإعلامي” معه، عاد عن “اعتكافه” ليساجل رئيس الجمهورية ميشال عون نفسه، بعد فترة طويلة من “تحييده” عن الخلافات.
فعلى خلفية بيان تلاه رئيس الرابطة المارونية خليل كرم من قصر بعبدا، تضمّن بعض التصريحات المنسوبة لرئيس الجمهورية، التي قد لا تكون “مفاجئة” لمعظم المتابعين، قرّر رئيس الحكومة المكلف أن يردّ على ما اعتبرها “مواقف جاهزة”، تؤشر إلى “ما يتمّ التخطيط له من قبل المحيطين برئيس الجمهورية”، ملمّحًا إلى وجود “اعتبارات طائفية”.
لعلّ ميقاتي قصد بهذه الاعتبارات “الهمز والغمز” الذي تكثّف في الأيام القليلة الماضية من قبل العديد من قيادات “التيار الوطني الحر”، ولا سيما المقرّبين من رئيسه الوزير السابق جبران باسيل، ممّن يتحدّثون عن خطوات وسيناريوهات، بينها سحب تكليف وبقاء في القصر، في سبيل عدم تسليم صلاحيات الرئيس “المسيحي” إلى حكومة تصريف أعمال.
لكنّ اللافت للانتباه أنّ السجال المباشر، الأول من نوعه منذ التكليف، بين ميقاتي وعون، جاء في وقت كان يحكى عن “تقدّم نوعي” على خط تأليف الحكومة، حتى إنّ بعض “المتفائلين” ذهب لحدّ تحديد الأسبوع المقبل موعدًا لولادتها، بعد حصول ميقاتي على “ردّ” من عون بشأن اسمين بديلين لوزيري الاقتصاد والمهجرين وفق ما تمّ نقاشه في لقائهما الأخير.
استنادًا إلى ما تقدّم، كيف يُفسَّر السجال “الرئاسي” بين عون وميقاتي في هذا التوقيت؟ هل هو مؤشّر إلى أنّ مفاوضات تأليف الحكومة لن تثمر، وهو ما يرجّحه كثيرون منذ اليوم الأول لتكليف ميقاتي؟ وما المغزى من إدخال “الاعتبارات الطائفية” على خطّ السجال؟ ألا يدرك الجميع “خطورة” المضيّ في مثل هذا الخطاب، بدليل تجارب الماضي غير البعيد؟!.
بالنسبة إلى الكثير من المتابعين، فإنّ السجال الأخير بين ميقاتي وعون مُستغرَب، بل “لزوم ما لا يلزم”، خصوصًا أنّ ما نُسِب إلى عون من تصريحات ومواقف لم يحمل جديدًا “نوعيًا”، إلا أنّه يعكس “أزمة ثقة” لم تنجح لقاءات بعبدا في “تبديدها”، فضلاً عن كونه “يفضح” في مكان ما، “رهانًا”، أو بالحدّ الأدنى “تسليمًا”، بأنّ لا حكومة ستتشكّل قبل نهاية العهد، ما سيدخل البلاد في “فوضى دستورية” ألمحت إليها “تسريبات” الأيام الأخيرة.
إلا أنّ المحسوبين على رئيس الحكومة المكلف والمقرّبين منه لا يوافقون على هذا الطرح، وهم يرفضون تحميل ميقاتي مسؤولية “افتعال السجال”، من خلال بيان مكتبه الإعلامي، حيث إنّ “البادئ أولى” كما يقولون، خصوصًا أنّ المواقف التي صدرت عن عون هي التي أتت خارج السياق، طالما أنّ الإيجابية كان يفترض أن تسيطر، ولا سيما أنّ ميقاتي كان ينتظر منه إجابات “حاسمة” يمكن أن تفضي إلى تشكيل الحكومة اليوم قبل الغد.
ومع أنّ هؤلاء يقرّون بأنّ مواقف عون ليست جديدة، باعتبار أنّه سبق أن أعلن صراحةً منذ أكثر من عام أنّه لن يسلّم السلطة إلى “فراغ”، ولو أنّه عاد وأكّد أنّه سيغادر بعبدا فور انتهاء ولايته الرئاسية، إلا أنّ الجديد فيها بحسب ما يقولون، فهو أنّه “يتبنّى” بصراحة ووضوح “نهج” الوزير السابق جبران باسيل، بل يوحي ضمنًا بصحّة التسريبات التي تتحدّث عن خطوات قد يقدم عليها قبل 31 تشرين الأول، وهو ما يتوعّد به المقرّبون من باسيل.
ويقول المحسوبون على رئيس الحكومة المكلف إنّ هذه التسريبات، إن صحّت، فهي تنطوي على خطورة فائقة، ومن شأنها فعلاً أخذ البلاد إلى مجهول لا تحمد عواقبه، سواء كان الحديث عن “سحب تكليف” كما يصرّح بعض “المستشارين الرئاسيين”، رغم معرفتهم بعدم دستورية الخطوة، وصولاً إلى حدّ الحديث المبطن عن إمكانية ذهاب عون إلى تشكيل حكومة بنفسه، ما من شأنه إثارة النعرات الطائفية، فضلاً عن استعادة زمن “غابر” من تاريخ لبنان.
لكن، خلافًا لرؤية المقرّبين من رئيس الحكومة المكلف، يقول المحسوبون على “التيار الوطني الحر”، إنّ “الأوْلى” بميقاتي أن ينصرف إلى تشكيل الحكومة، بدل افتعال المعارك الدونكيشوتية، خصوصًا أنّه بات واضحًا في الآونة الأخيرة، أنّه يصرف “كلّ جهده” على صياغة البيانات والهجوم على الخصوم، في حين أنّه لو صرف الجهد نفسه على تأليف حكومة تراعي الأصول، لولدت هذه الحكومة وأصبحت جاهزة للحصول على ثقة مجلس النواب.
ويستغرب هؤلاء بيان ميقاتي ردًا على رئيس الجمهورية، وحديثه عن “مخططات” يتمّ العمل عليها من قبل المحيطين بالرئيس، في حين أنّ كلّ “فحوى” الكلام المنسوب إلى الرئيس، لا يخرج عن أدبيّات الحضّ على تأليف الحكومة في أسرع وقت ممكن، لمنع انزلاق البلاد نحو اجتهادات وفتاوى، بات واضحًا أنّ الخبراء الدستوريين الكبار يختلفون في شأنها، وهو ما سبق لميقاتي أن سمعه أساسًا خلال لقاءاته الأخيرة مع عون.
ويرى المحسوبون على “التيار” أنّ ميقاتي هو الذي “يستثير” النعرات الطائفية، حين يتهم الآخرين بالأمر، خصوصًا أنّ ما صدر عن رئيس الجمهورية لا يحتمل أيّ “تأويل” بهذا الصدد، بعكس ما يصدر عن ميقاتي وغيره، خصوصًا في زمن “نادي رؤساء الحكومات السابقين”، الذي قد يعود إلى الحياة، رغم “موته الرحيم”، إذا ما فكّر الرئيس باتخاذ أيّ خطوة لمعالجة “الخلل” الناشئ عن فراغ شامل في كلّ السلطات.
في النهاية، وبمعزل عمّن يتحمّل مسؤولية إدخال “الطائفية” على خط الحكومة والرئاسة، في ظل الحديث الدائم عن حقوق المسيحيين وصلاحيات السنّة، يبقى المطلوب من الجميع دون استثناء، التنبّه إلى “العواقب الوخيمة” لاستثارة النعرات في هذا التوقيت، خصوصًا أنّ كثيرين يشبّهون ظروف اليوم، بظروف ماضٍ أليم، يغمز البعض إلى أنّ هناك من يريد “استرجاعه”، عبر إعادة عقارب الساعة إلى الوراء…
التعليقات